الضفة الغربية- استعمار متزايد و تهجير متصاعد للسكان الأصليين

المؤلف: ساري عرابي09.19.2025
الضفة الغربية- استعمار متزايد و تهجير متصاعد للسكان الأصليين

منذ احتلالها عام 1967، ظلت الضفة الغربية موضع إجماع إسرائيلي، فلا يقتصر دورها على الاستقطاب الأيديولوجي للاستيطان الصهيوني فحسب، بل إنها شكلت حلًا مقبولًا لمعضلة الفقر في العمق الإستراتيجي للدولة الناشئة. عقب الاحتلال مباشرة، بادر إيغال ألون، الوزير العمالي وسليل "الهاغاناة"، بطرح خطته للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

هذه الخطة، التي تضمنت ضم قطاع غزة وتهجير قاطنيه، تمسكت بأجزاء من الضفة الغربية، لا سيما منطقة الغور الممتدة من نهر الأردن حتى السفوح الشرقية لمرتفعات نابلس وجنين، بالإضافة إلى منطقتي الخليل والقدس. كانت الخطة ترمي إلى إعادة السكان إلى السيادة الأردنية، وربطهم بالمملكة الأردنية الهاشمية عبر ممر يمر بضواحي أريحا. قبيل توقيع اتفاقية أوسلو، أوضح رئيس الوزراء العمالي إسحاق رابين أن المستوطنات في الضفة الغربية تنقسم إلى قسمين: أمنية وسياسية. الأمنية هي تلك الواقعة على الحدود، والتي يجب تعزيزها ودعمها وضمان توسعها، بينما تبقى السياسية على حالها مع بقاء مستوطنيها فيها.

لكن اليمين الإسرائيلي، المدعوم اليوم بتيار الاستيطان التوراتي المتغلغل في حكومة بنيامين نتنياهو، استغل هذا الأساس الاستعماري الصهيوني ذي الطابع الأمني الإستراتيجي لتعظيم مكاسبه الاستيطانية، سعيًا وراء تحقيق حلم "إسرائيل" الكبرى الممتدة من البحر إلى النهر، مما فاقم المشكلة الديمغرافية الفلسطينية. فماذا يفعل الإسرائيليون بالكتلة السكانية الفلسطينية الأصيلة في الضفة الغربية، والتي تقدر اليوم بنحو ثلاثة ملايين نسمة؟!

تاريخيًّا، انتهجت السياسة الاستعمارية الإسرائيلية أسلوب فرض الوقائع وتثبيتها على الأرض، وجعلها أساسًا للمرحلة التالية، سواء كان ذلك من خلال المضي قدمًا في توسيع المشروع الاستعماري وتضخيمه، أو باستخدام هذه الوقائع كأرضية تفاوضية.

فمنذ التوسع الإسرائيلي في الفضاء العربي عام 1967، جعل الإسرائيليون الوقائع على الأرض هي المحدد للمفاوضات، متجاهلين الحقوق الأصيلة للسكان الأصليين والقوانين الدولية، مهما كانت مجحفة بحقهم. وهكذا، استمر المشروع الاستيطاني في التمدد في الضفة الغربية، محاطًا ببنية تحتية متنامية باستمرار وقوة عسكرية إسرائيلية مصحوبة بتحفز أمني محموم، مما حول الضفة الغربية إلى بيئة طاردة للسكان الأصليين وجاذبة للمستوطنين المستعمرين.

تتميز الحالة الاستعمارية في الضفة الغربية بتبني سياسات خنق وحصار متزايدة تستهدف السكان الأصليين، وتتخذ شكلًا فريدًا من الفصل العنصري وإعادة هندسة الاجتماع للسكان الأصليين، مما يجعلهم في قبضة خانقة لكل من البناء الاستيطاني والحكم العسكري.

لقد أدى التوسع الاستيطاني إلى توسيع القدس الاستعمارية وجعلها كتلة ضخمة تفصل جنوب الضفة الغربية عن شمالها، وتعزل السكان الأصليين لشرقي القدس داخل الجدار الاستيطاني عن فضائهم الجغرافي والديمغرافي في الضفة الغربية، مما أوجد ظروفًا متباينة ليس فقط سياسيًّا بين سكان شرقي القدس وبقية سكان الضفة الغربية، ولكن أيضًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وهو ما يعيق التضافر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بين فلسطينيي القدس وفلسطينيي بقية الضفة، ويعزز ارتباط فلسطينيي القدس بالمؤسسة الإسرائيلية.

يمثل البناء الاستيطاني جوهر السلوك الاستعماري في الضفة الغربية، فالطرق الالتفافية والجدار العازل ومنظومة الضبط والسيطرة الأمنية برمتها، من الحواجز والبوابات الحديدية وأبراج المراقبة والمكعبات الإسمنتية، تخدم الحركة الاستيطانية وتعطل قدرة الفلسطينيين على التنقل.

وقد أضاف ذلك إلى فصل التجمعات السكانية الفلسطينية الكبرى عن بعضها البعض، فصل القرى عن بعضها وعن مدنها، مما ضيق الخناق على القرى الفلسطينية، إلى درجة أن بعضها أصبح مغلقًا على أهله فقط، ولا يمكن لسكان القرى المجاورة الوصول إليها. هذا في الوضع الطبيعي، أما في الظروف الأمنية الاستثنائية، كما هو الحال منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يزداد عدد القرى المغلقة ببوابات حديدية.

وهكذا تحولت جغرافيا السكان الأصليين إلى تجمعات متناثرة، محاصرة بالحياة الاستيطانية النشطة والقوات العسكرية الإسرائيلية المتأهبة، مما يسهل السيطرة عليها ويجعلها معازل صغيرة، لكل منها ظروف خاصة، وهو ما يفتت الوحدة الاجتماعية للفلسطينيين ويمنع القدرة على بناء حالة نضالية موحدة.

وفي الوقت ذاته، يعزل هذا الحصار الفلسطينيين عن فرص التوسع الحيوي، فلا توجد إمكانية لتطوير القطاع الزراعي بسبب عدم القدرة على الوصول إلى الأراضي الزراعية، وقد منع الاحتلال بناء أي منشأة فلسطينية في الأراضي المصنفة (ج)، وما يتم بناؤه رغماً عن الاحتلال مهدد بالهدم دون وجود أي فرصة لتعويض المتضررين.

وبينما يفترض أن تقتصر الصلاحيات الإدارية في مناطق (ب) على السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقية أوسلو، قررت "إسرائيل" مؤخرًا توسيع صلاحياتها الإدارية لتشمل مناطق (ب)، بما في ذلك قدرتها على هدم ما تشاء من مباني الفلسطينيين في هذه المنطقة.

إن القدرة على العزل والتحكم في الطرق والمصادرة العملية لمناطق (ج) تؤدي إلى تدمير أي قدرة على بناء مجتمع فلسطيني مكتفٍ ذاتيًا ومتصل ببعضه البعض ومتحرر من الهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية، وذلك عن طريق تدمير الإمكانات الإنتاجية للفلسطينيين، والمقيدة أيضًا باتفاقية باريس الاقتصادية، التي تخضع الاقتصاد الفلسطيني بالكامل للسيطرة الإسرائيلية، وهو اقتصاد لا يملك منافذ إلى الخارج إلا عبر الموانئ والمعابر الإسرائيلية، الأمر الذي أوجد أزمة "المقاصة" التي تجبيها "إسرائيل" لصالح السلطة الفلسطينية مقابل عمولة، والتي أصبحت بدورها أداة ابتزاز سياسي تستخدمها لفرض تنازلات سياسية وشروط أمنية على السلطة الفلسطينية.

لقد أدت سياسة المقاصة هذه إلى جعل القدرة الإيرادية للسلطة الفلسطينية مرتبطة بالكامل بإرادة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وهو الأمر الذي اتخذ مدى أوسع مع حكومة بنيامين نتنياهو الحالية نظرًا لتولي بتسلئيل سموتريتش، زعيم حزب "الصهيونية الدينية" وأحد قادة المستوطنين وتيار الاستيطان التوراتي، منصب وزير المالية.

إن المصادرة المستمرة لأموال المقاصة أدخلت الاقتصاد الفلسطيني في حالة انكماش دائم، إذ تعتمد الدورة التجارية الفلسطينية على رواتب موظفي السلطة ودخول العمال الفلسطينيين العاملين في الأراضي المحتلة عام 1948، وهي الدخول التي توقفت تقريبًا منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بعد منع "إسرائيل" العمال الفلسطينيين من الدخول إلى القدس والأراضي المحتلة عام 1948.

ويشير هذا بدوره إلى انعدام الفرص لتطوير الاقتصاد الزراعي والصناعي في الضفة الغربية، أما الاقتصاد الخدمي فهو مشلول بسبب الظروف الأمنية وتقطيع الضفة الغربية استيطانيًّا وعسكريًّا، بالإضافة إلى أنه لا يمكن تطوير اقتصاد خدمي يعتمد فقط على السكان المحليين الذين يفتقرون إلى اليقين الاقتصادي بسبب ارتباط دخولهم بالرواتب غير المستقرة للسلطة الفلسطينية، أو بأجور العمال الذين يتجهون للعمل في الأراضي المحتلة عام 1948.

يتضح مما سبق أن منطق التوسع الاستيطاني واحتياجاته الأمنية قد فرض الانتقال من سياسة الاحتواء الاقتصادي إلى سياسة الإذلال الاقتصادي، وبما يخدم أغراض تقليص الوجود الديمغرافي الفلسطيني في الضفة الغربية، وهو الأمر الذي يندرج في إطار الحل الاستعماري للمشكلة الديمغرافية في عموم فلسطين، ويعزز من مشاريع ضم الضفة الغربية، الأمر الذي يحتاج إلى معالجة تدريجية لهذه المشكلة.

في عام 2017، قدم بتسلئيل سموتريتش خطته لحسم الصراع في الضفة الغربية، والتي تقضي بضم الضفة الغربية بأكملها. تفتح هذه الخطة نقاشًا واسعًا حول المشكلة الديمغرافية، فـ"إسرائيل اليهودية" لن تحتمل وجود عدد كبير من الفلسطينيين، ولذلك تضمنت حلول سموتريتش، في محاولة للهروب من معضلة الفصل العنصري التي قد تتحول إلى أطروحة الدولة الواحدة، خطوات تدريجية:

أولًا؛ التعامل مع سكان الضفة الغربية بوصفهم سكانًا من الدرجة الثانية، بلا حقوق سياسية، ثم تسهيل الهجرة الطوعية، ثم دراسة منح الجنسية الإسرائيلية لمن يقبل بواجبات المواطنة الكاملة، بما في ذلك الخدمة في الجيش الإسرائيلي، ومن يرفض التجنيد أو الهجرة يعاقب بقمع غير مسبوق.

وفي نهاية المطاف، وبحسب خطة سموتريتش، يُمنح ما تبقى من سكان الضفة الغربية الجنسية الأردنية، في نمط من الترحيل السياسي، على أن تبقى السيادة القانونية والأمنية على الضفة الغربية لـ"إسرائيل".

وغني عن البيان أن هذه خطة طموحة للغاية، ولكن جميع مشاريع الضم، بغض النظر عن مستواها، أو السيطرة الأمنية، تتطلب تقليص أعداد سكان الضفة الغربية. إن تقليص أعداد سكان الضفة الغربية، في هذه الحالة، يمثل حاجة إستراتيجية وأمنية وسياسية واستيطانية، وفي هذا السياق تتضافر جهود التيار الاستيطاني مع جهود المؤسسة الإسرائيلية الرسمية.

بالإضافة إلى ما ذُكر أعلاه من مسار متدرج أفضى إلى تحويل الضفة الغربية إلى بيئة طاردة، تطور الوجود الاستيطاني إلى وجود ميليشياوي منظم ضمن عدد من التنظيمات الاستيطانية، التي تقوم على هياكل تنظيمية، لها مرجعياتها الروحية والأيديولوجية والسياسية، ومؤسساتها الدينية والثقافية والاقتصادية، وامتداداتها في المؤسسة الإسرائيلية، السياسية والعسكرية والأمنية. وقد باتت كتائب كاملة في جيش الاحتلال تتكون من أفراد ينتمون إلى تيار الاستيطان التوراتي، وكذلك الحال في الجهاز الشرطي، ولا سيما قوات حرس الحدود.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن ثاني أهم منصب في جيش الاحتلال، وهو قائد المنطقة الوسطى، الذي يشغل منصب الحاكم العسكري للضفة الغربية، يشغله اليوم أحد المستوطنين المتدينين، وهو آفي بلوط، الذي عاش في مستوطنة "نفيه تسوف" المقامة على أراضي بعض قرى غرب رام الله، ودرس في المدرسة العسكرية الدينية في مستوطنة "عيلي" المقامة على أراضي شرق رام الله.

وقد تكفل ممثلو تيار الاستيطان التوراتي في الحكومة والكنيست بتضييق صلاحيات جهاز "الشاباك" في متابعة عناصر ميليشيات المستوطنين الذين أشرف على تسليحهم وزراء في حكومة نتنياهو، مثل بن غفير، زعيم حزب "العظمة اليهودية"، وقد انعكس ذلك في هجمات مروعة، تعود لأكثر من عشر سنوات، كما في حرق الطفل محمد أبو خضير عام 2014، وعائلة دوابشة عام 2015. ثم استمرت هجمات المستوطنين، المحميين بجيش الاحتلال، في مداهمة بلدات الفلسطينيين ومدنهم، وتعمد إتلاف ممتلكاتهم، ومنعهم من الوصول إلى أراضيهم الزراعية حتى اليوم، دون أن يتمكن الفلسطينيون من امتلاك أدوات الدفاع عن أنفسهم.

لقد بلغت سياسات التهجير البطيء ذروتها مع حكومة بنيامين نتنياهو، من خلال تكريس الوجود الاستيطاني وتحويله إلى احتلال مدني دائم، من خلال الوزارة الثانية الممنوحة لسموتريتش في وزارة الحرب الإسرائيلية، بحيث أصبح للمستوطنين إدارة خاصة بهم داخل جهاز "الإدارة المدنية"، الذراع العسكرية للحكم العسكري في الضفة الغربية.

باتت الإدارة الاستيطانية تتبع مسؤولًا مدنيًّا بقوانين مختلفة عن القوانين العسكرية المفروضة على الفلسطينيين في الضفة الغربية، وذلك في مسعى لتوحيد قوانين المستوطنات مع القوانين الإسرائيلية داخل الأراضي المحتلة عام 1948، في عملية ضم فعلية للمستوطنات. وهذا بدوره يعني المزيد من التوسع الاستيطاني، ويستدعي المزيد من البنى التحتية الخادمة للمستوطنات، ويتطلب المزيد من الاستنفار الأمني والعسكري الإسرائيلي.

كما أن سياسات التهجير البطيء أصبحت تنتهج عنفًا مطردًا وغير مسبوق، ليس فقط بهدف التعجيل بتفكيك التشكيلات المقاومة المسلحة في مناطق شمال الضفة الغربية، ولكن أيضًا بهدف تعزيز البيئة الطاردة للفلسطينيين، في نمط مركب من العنف المباشر، كما يحصل بالتدمير الممنهج في مخيمات جنين وطولكرم وغيرهما، وتهجير سكانها، ومن الترهيب لبقية المناطق، بما يجعل المستقبل قاتمًا ومخيفًا، ويدفع نحو الهجرة الطوعية.

بعض السياسات القائمة الآن للدفع نحو الهجرة تشبه ما حدث إبان النكبة عام 1948، فعصابات "الهاغاناة" و"إيتسل" و"ليحي" تتجدد اليوم في تنظيمات "فتية التلال" و"تمرد" و"تدفيع الثمن"، وفي كتائب في الجيش مثل "نيتسح يهودا"، ومجازر دير ياسين والطنطورة تتكرر بأنماط متنوعة في طولكرم وجنين وطمون. الحرب في العام 1948 تعود في الهجوم العسكري الواسع على مناطق شمال الضفة الغربية، بيد أن الجديد في الأمر أن ذلك كله يستند اليوم إلى بنية استعمارية استيطانية قائمة أصلًا منذ 58 عامًا، وإلى كيان يملك مقومات هائلة عمره 77 عامًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة